جاري التحميل الآن

الحلقة السادسة عشرة: رمضان في ذاكرة الزمن الجميل!

1741895567 1 75.jpg

الحلقة السادسة عشرة: رمضان في ذاكرة الزمن الجميل!

بقلم: عيسى المزمومي

الوعي هو النور الذي ينير درب الإنسان في معترك الحياة، وهو أكثر من مجرد إدراك حسي أو حالة ذهنية؛ إنه انعكاس للحكمة العميقة التي تتجلى في فهم الذات والعلاقة مع الآخرين. عندما يتجذر الوعي في النفس، يصبح الإنسان أكثر قدرة على التأمل في تفاصيل وجوده، أكثر وعيًا بأثره في هذا العالم، وأكثر انفتاحًا على قيم الرحمة والإحسان!
لكن الوعي ليس حالة ثابتة، بل يتخذ أشكالًا متعددة، منها:
*الوعي العفوي: ذلك الإدراك الفطري الذي يجعلنا نتصرف تلقائيًا دون تفكير عميق، وفق استجاباتنا الطبيعية للحياة اليومية.
* الوعي التأملي: وهو القدرة على الغوص في أعماق الفكر، وتحليل الأمور برؤية نقدية وإبداعية، مما يجعله محرّكًا للتغيير والتطور.
*الوعي الحدسي: تلك اللحظات الفجائية التي تنبثق فيها المعرفة كوميض يكشف لنا حقيقة غائبة.
*الوعي الأخلاقي: إدراك الإنسان لمسؤوليته تجاه القيم والمبادئ، وقدرته على التمييز بين الخير والشر في سلوكه ومواقفه.
*الوعي الذاتي: قدرة الإنسان على فهم ذاته بعمق، والوعي بأفكاره ومشاعره وتصوراته عن الحياة، مما يجعله أكثر توازنًا في تعامله مع واقعه.وعندما يختل هذا التوازن بين الإنسان ووعيه، تصبح النفس البشرية عرضة للاضطراب، وهو ما يجعل الصحة النفسية انعكاسًا حقيقيًا لمستوى الوعي الذي يحمله الإنسان. وللأسف، لا تزال الأمراض النفسية محاطة بوصمة اجتماعية تمنع الكثيرين من البحث عن المساعدة، مما يؤدي إلى تفاقم المعاناة!
وفي هذا السياق، يبرز دور الشخصيات المؤثرة التي سعت إلى كسر هذه القيود، مثل الدكتور طارق الحبيب، الذي لم يكن مجرد طبيب نفسي، بل كان داعية للوعي العميق بالصحة النفسية. عبر كتبه مثل “مفاهيم خاطئة عن الطب النفسي” و”نحو نفس مطمئنة واثقة”، ساهم في تغيير نظرة المجتمعات إلى الطب النفسي، وجعل من التوعية النفسية رسالةً إنسانية لا تقل أهمية عن العلاج ذاته.وكما قال كارل ماركس: “ليس وعي الناس هو ما يحدد وجودهم، بل وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم.” فالوعي ليس مجرد حالة عقلية مستقلة، بل هو نتاج السياقات الاجتماعية والظروف التي تشكّل الإنسان. وفي خضم هذه الرحلة التأملية في ماهية الوعي، يهلّ رمضان، ليكون فرصة لتجديد الروح، وموسمًا للعودة إلى الذات الحقيقية. إنه أكثر من مجرد شهر للصيام والعبادة؛ إنه مساحة للتأمل في مسارات حياتنا، لحظة ندرك فيها ما إذا كنا نعيش وفق القيم التي نؤمن بها، أم أننا انجرفنا في زحام الحياة بعيدًا عن حقيقتنا.
يعلّمنا الصيام كيف نتحرر من قيود الشهوات، كيف نكون أكثر تحكمًا في أنفسنا، كيف نرتقي بأرواحنا فوق الماديات. إنه ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل هو تدريب على تهذيب النفس، واختبار حقيقي للإرادة، ودعوة صادقة للسمو بالروح.لكن رمضان لا يتعلق فقط بعلاقتنا مع أنفسنا، بل يتجلى أيضًا في علاقتنا بالآخرين. إن الإحسان، وهو جوهر هذا الشهر، ليس مجرد صدقة عابرة أو فعل خير مؤقت، بل هو أسلوب حياة. أن تكون محسنًا يعني أن تكون أكثر حضورًا في حياة الآخرين، أن تمنحهم الدعم، أن تشاركهم أفراحهم وأحزانهم، أن تستمع إليهم بحب، وأن تكون نورًا في طريقهم.ومع ذلك، لا يمكننا أن نهب الرحمة للآخرين إن لم نمارسها على أنفسنا أولًا. كثيرون يقسون على ذواتهم، يسجنون أنفسهم في دوائر اللوم والندم، ينسون أن الغفران يبدأ من الداخل. يعلمنا رمضان أن الرحمة لا تعني فقط التسامح مع الآخرين، بل تعني أيضًا أن نكون لطفاء مع أنفسنا، أن نقبل عيوبنا، أن نمنح أرواحنا فرصة جديدة للنمو والتجدد، كل يوم يمر في رمضان هو دعوة لاكتشاف أنفسنا من جديد، دعوة لنكون أكثر وعيًا، أكثر إنسانية، أكثر إحسانًا. ندرك أن الوعي ليس فكرة مجردة، بل ممارسة يومية تنعكس في سلوكياتنا. أن الإحسان ليس مجرد صدقة، بل طريقة نعيش بها حياتنا. أن الرحمة ليست كلمات تقال، بل مواقف نشهد بها على إنسانيتنا.إن رمضان ليس مجرد شهر من العبادة، بل رحلة تأملية نحو الذات. يعلّمنا كيف نكون أكثر توازنًا، أكثر رحمة، وأكثر قربًا من حقيقتنا. إنه فرصة لإعادة ترتيب أولوياتنا، لتأكيد التزامنا بأن نكون أفضل نسخة من أنفسنا.مهلًا يا رمضان، لا تمضِ سريعًا، دعنا نتشبع بمعانيك، ونتعلم منك كيف نكون أكثر وعيًا، أكثر رحمة، وأكثر إحسانًا!

إرسال التعليق

ربما تكون قد فاتتك