رمضان في ذاكرة الزمن الجميل!

بقلم: عيسى المزمومي
رمضان ليس مجرد شهر في التقويم، بل هو تجربة إنسانية تتجدد كل عام، تترك أثرًا عميقًا في الوجدان، وتعيد تشكيل علاقتنا مع ذواتنا ومع الآخرين. إنه موسم تتسع فيه الروح، ويتجلى فيه معنى التوازن بين الجسد والعقل، بين الاحتياجات والرغبات، بين الزهد والاكتفاء. لكنه، في ذاكرة الزمن الجميل، كان شيئًا آخر، أكثر نقاءً وعمقًا، حيث لم يكن محاصرًا بالاستهلاك، ولا مشغولًا بالضجيج.
أتذكر أول عام صمت فيه في حي البوادي بجدة، عندما كانت الحارة تمثل امتدادًا للأسرة، حيث الجيران هم الأهل والأصدقاء والأحباب. كانت الأبواب مفتوحة للجميع، لم تكن الماديات تسيطر على العقول، كان الكبير يعطف على الصغير، والصغير يحترم الكبير، رغم شظف العيش!
عندما نسترجع رمضان في زمن مضى، تتجلى صورة مختلفة عن واقع اليوم. كان الزمن أبطأ، واللحظات أكثر صفاءً، حيث لم تكن التكنولوجيا قد غزت تفاصيل حياتنا، ولم تكن الشاشات تسرق انتباهنا من جمال التواصل الحقيقي. كان رمضان موعدًا للروح، للصمت التأملي، وللحديث العميق بين القلوب. كانت الليالي الرمضانية تمتزج بطيب النفوس الذي يملأ الأرجاء، فينطلق الناس إلى المساجد في هدوء، لا تلهيهم رسائل الهواتف، ولا تقاطعهم إعلانات التلفاز. كان صوت المقرئ في صلاة التراويح من جهاز الراديو ينساب كجدول هادئ، يروي ظمأ الأرواح، ويأخذها في رحلة نحو عالم أكثر صفاءً!. أما موائد الإفطار، فلم تكن ساحةً للتباهي والتنافس، بل كانت تعبيرًا عن البساطة والرضا، حيث تجتمع العائلة حول الطعام الذي أُعدَّ بحب، ويتقاسم الجيران الأطباق، وكأن كل بيت امتداد للآخر. كان الجوع تجربة تُعاش، لا مجرد فترة تُنتظر نهايتها، وكان الامتناع عن الطعام درسًا في ضبط النفس، لا مجرد التزام جسدي.
لم يكن الصيام في الزمن الجميل مجرد انقطاع عن الطعام والشراب، بل كان رحلة روحية نحو الداخل، حيث يتأمل الإنسان في حاجاته الحقيقية، ويختبر قوته على ضبط رغباته. كان الجوع نافذة تُطل منها النفس على جوهرها، يوقظ فيها الشعور بالآخرين، لا بدافع الشفقة فقط، بل بدافع الوحدة الإنسانية العميقة. كان رمضان درسًا في الاكتفاء، حيث يتعلم الإنسان أن السعادة ليست في الامتلاك، بل في التخفف من الأعباء، وأن لذة الطعام لا تأتي من كثرته، بل من إدراك قيمته. كان الزهد أسلوب حياة، وليس مجرد شعار، وكان الصبر فضيلة تُمارَس، لا مجرد مفهوم نظري.
إذا تأملنا في رمضان اليوم، نجد أنه، في كثير من جوانبه، قد تحول إلى موسم استهلاكي بامتياز. تزدحم الأسواق قبل الإفطار، وكأن الهدف من الصيام هو الامتلاء بعد الجوع، وتمتلئ الشاشات بالبرامج والمسلسلات التي تصرف الناس عن جوهر هذا الشهر. أصبح الإفطار مناسبةً للتفاخر بالمأكولات، وأصبحت الليالي الرمضانية تضيع بين الإعلانات التجارية والعروض الترفيهية، حتى صار من الصعب العثور على لحظة صمت حقيقية، لحظة تأمل تمنح الإنسان فرصة للغوص في ذاته، وإعادة ترتيب أفكاره.
لا تزال هناك قلوب تنبض بالروح القديمة، ولا يزال هناك من يبحث عن السكون وسط الضجيج، ومن يختار أن يجعل من رمضان فرصةً للتغيير الحقيقي، لا مجرد عادة موسمية تتكرر كل عام. ربما لا يمكننا العودة إلى الماضي، لكن يمكننا استعادة القيم التي جعلت رمضان الزمن الجميل أكثر صفاءً ومعنى. يمكننا ذلك من خلال:
1. التخفف من الاستهلاك : أن نجعل من رمضان شهرًا للبساطة، لا شهرًا للإفراط، وأن نعيد اكتشاف قيمة القليل.
2. إحياء التواصل الحقيقي : أن نخصص وقتًا للعائلة بعيدًا عن الشاشات، وأن نعيد لرمضان جوّه الدافئ القائم على اللقاء الحقيقي.
3. إعادة اكتشاف الصمت : أن نبحث عن لحظات السكون، ونسمح لأنفسنا بالتأمل بعيدًا عن صخب الإعلام والإعلانات.
4. التقرب من المحتاجين بعمق : ليس فقط عبر الصدقة، بل بمحاولة العيش ولو ليوم واحد كما يعيشون، لنشعر بمعنى الاكتفاء.
5. إعادة تعريف الصيام : أن نجعله رحلة روحية، لا مجرد انقطاع جسدي، وأن نجعله أداةً لتطوير الذات، لا مجرد التزام ديني.
رمضان لم يكن يومًا مجرد زمن جميل مضى، بل هو انعكاس لحالتنا الداخلية. إن جعلناه موسمًا للاستهلاك، فسيكون كذلك، وإن جعلناه محطةً للتأمل، فسيصبح فرصةً للتغيير. الزمن يتغير، لكن القيم تبقى، ورمضان سيظل دائمًا فرصةً لمن يريد أن يجعله تجربة إنسانية عميقة، رحلةً نحو الذات، ونحو الله، ونحو إنسانيتنا الحقيقية التي لم تمُت رغم سعينا الحثيث نحو المال والشهوات!
إرسال التعليق